موت فناجين العمّ صالح | قصّة

 

"موت فناجين العمّ صالح!".

هكذا كان «المانشيت» الخاصّ بصحيفة «الحياة الجديدة» في صبيحة اليوم التالي لوفاة العمّ صالح، وإن كنتم تريدون الحقيقة، لقد أثار العنوان فضول جميع أهل المدينة، إلّا أولئك اّلذين يعرفون العمّ صالح عن قرب وهم قلّة. لكنّ الّذين لم يسمعوا عنه من قبل، ولم يدخلوا حتّى دكانه ولو صدفة، كان لهم الحقّ في التساؤل عن تلك الفناجين الّتي يتحدّثون عنها، وما دخل وفاة عجوز في المخيّم بالفناجين؟

كانت حياة العمّ صالح مقتصرة على دكّانه الصغير الّذي يحتوي على بعض البقالة، بعض البضائع الرخيصة، القليل من أطعمة الوكالة المباعة، ألعاب الأطفال، والكثير من الفناجين الّتي دائمًا ما أثارت حفيظة زبائنه. فلم يكن يبيعها، لكنّها كانت في ازدياد دائم؛ فبعد أن بدأ رفّ فناجينه بفنجانَيْن من والده، انتهى به الأمر إلى ما يقارب المائة فنجان. المستغرب دائمًا كان أنّه يرفض بيع أيّ منها مهما دفع المشتري، حتّى إنّ إشاعة انتشرت قبل سنوات بأنّه رفض بيع فنجان مقابل ألف شيكل.

ظلّت هذه الفناجين تشكّل حالة استغراب لدى الجميع، إلى أن انفكّت العقدة قبيل موته بساعة واحدة فقط. مَنْ يدري؟ فربّما لو مات العمّ قبل ساعة مثلًا لظلّت الفناجين سرًّا يتداوله الناس ويكتب عنه الكُتّاب ويتحدّث المثقّفون عن رمزيّته، لكنّ القدر شاء أن يتنازل العمّ قبل موته بساعة واحدة، ويخبر حفيده الأقرب إلى قلبه بالسرّ.

استرسل الخبر في الصحيفة بتفاصيل حياة العمّ صالح، كيف عاش خمسة وستّون عامًا وثلاثة أشهر ويومين وساعة واحدة، وتوفّي صبيحة الأحد في أحد أزقّة مخيّم الجلزون في رام الله وهو في طريقه إلى دكّانه. قال الناس إنّه لم يكن مصابًا بأيّ مرض، لم يشتكِ يومًا من هبوط ضغطه، لم يتناول حبوبًا لرفع نسبة الأنسولين في جسده، حتّى أنّه حين أصابته وعكة صحّيّة قبل عامين، رفض تناول العلاج وتمدّد في السرير ما يقارب الأسبوع، ثمّ عاد مثل الحصان يركض في الأزقّة ويشتري الموادّ التموينيّة من الناس ليبيعها مرّة أخرى بربح ضئيل قد لا يتجاوز العشرين شيكل. لكنّه وبعد هذا الكبرياء كلّه، وقع وسط الزقاق وغمره الماء المتساقط حتّى أنه لم يَعُدْ يُرَى، ولم ينهض أبدًا. أستطيع القول إنّه لم يسقط في حياته إلّا ليموت، وهذا عجب العجاب والله. 

يروي الخبر تفاصيل الساعة الأخيرة في حياته، حيث استيقظ في السادسة صباحًا وأرسل صوته إلى حفيده الّذي يسكن مع أبيه في الطابق العلويّ، فأتى إليه مهرولًا ظنًّا منه أنّ جده بحاجة إلى شيء ضروريّ، تذمّر قليلًا، لكنّ محبته لجدّه أزاحت التذمّر. صعدت كفّيه إلى عينيه، فركهما جيّدًا وسَمِعَ كلام الجدّ بأن أتى بكرسيّ وجلس قبالته، ثمّ بدأ الجدّ بالحديث:

"أنت تعرف بأنّي أحبّك أكثر من البقيّة، سواءً أبنائي أو أحفادي، ليس لأنّك تحمل اسمي، حاشا لله فلم يكن ذلك بيدي، إنّه القلب وإنّها الفناجين يا جدّي، إنّه حبّ الفناجين واحترامها. فبينما كان الجميع يستهزئ ويلقي النكات بسببها، كنت الوحيد الّذي يجلس صامتًا وتتأمّل شكل الفناجين وتلحّ عليّ في كلّ مرة أن أخبرك قصّتهم، لكنّني كنت أرفض وأمهلك؛ لأنّني لم أرد لسرّي الّذي حافظت عليه كلّ هذه السنوات أن يُكْتَشَفَ قبل موتي".

ظلّ الولد المسمّى صالحًا صامتًا إلى أن عاد العمّ صالح للحديث:

"عندما كنت صغيرًا لم أكن مهووسًا بالفناجين كما أنا الآن، لكنّني وصلت الآن إلى ذروة حبّها، وقد تخيّلت كلّ فنجان منهم ترتشف منه امرأة جالسة في مدينة مختلفة. دعني أحدّثك من البداية، أقصد بداية حبّي للفناجين، كان ذلك في صبيحة يوم أحد، حيث ذهبت أنا وجدّك إلى يافا قاصدين التبضّع لدكّانه الصغير في القرية، كنت في العاشرة من العمر حين رأيت فناجينًا مزخرفة بأسلوب يشرح القلب، آه والله يشرح القلب. لو كان الأمر بيدي لظللت واقفًا أمامها إلى الأبد، ولتمنّيت أن أُثبَّتَ لأصبح شجرة. كنت أركّز نظري إلى فنجانَيْن أحدهما نُقِشَ عليه صورة امرأة تحمل جرّة، وثمّة تموّجات تشبه البحر أسفل قدميها، والآخر كان عليه حمامة كنعانيّة صغيرة لا تحاول أن تطير. جذباني هذان الفنجانان ولاحظ أبي ذلك فقرّر أن يشتريهما لي. على الرغم من أنّهما لم يكونا شيئًا شديد الأهمّيّة، لكنّهما كانا بالنسبة لي أهمّ حتّى من وجودي. مرّت بضع أشهر وكان علينا الرحيل، حمل الرجال مَنْ ماتوا على ظهورهم وحملت النساء الملابس وذهبهنّ وحمل الأطفال الألعاب، بينما حملت أنا فنجانيّ وركضت".

تابع العمّ صالح قائلًا: "لم يضحكوا عليّ الآن فقط، إنّهم يضحكون منذ خمس وخمسين سنة. لم يتوقّفوا أبدًا، لكن ربّما حين أموت، بعد ساعة من الآن، سيشفقون عليّ للمرّة الأولى ويندمون على ضحكهم الممتدّ مثل سهل، عندها سأضحك أنا للمرّة الأولى، وسيكون ضحكي نهرًا يمتدّ من بيت نبالا حتّى مخيّم الجلزون".

لم يُبْدِ صالح أيّ ردّ فعل وظلّ صامتًا ما دفع العمّ صالح لأن يستمرّ في الحديث دون توقّف:

"كبرت وأصبح لي دكّان، وبدأت أرصّ الفناجين في واجهة الدكّان. لم أكن أرغب في جذب الكثير من الاستهزاء بالطبع، لكنّني حاولت دائمًا أن أجعل الناس يعرفون ما قيمة أن يمتلك الإنسان فنجانًا، ويكفيني بعد هذا العمر أن تعرف أنت قيمتها. بدأت بفنجانَيْن ثمّ تطوّر الأمر، وصرت كلّما تعرّفت إلى صديق جديد وأراد أن يهديني هديّة، طلبت فنجانًا. بعد زواجي من جدّتك، رحمها الله، جاء إلينا المهنّئون كلّهم بفناجين. أنت لا تعرف كم فرحت بذلك وصرت أركض في البيت مثل مجنون، لقد أهداني كلّ أصدقائي فناجين، هذه صناعة محلّيّة، الأخرى صناعة مصريّة، فالرسومات الفرعونيّة بارزة عليها، وتلك صُنِعَتْ في رومانيا، أهداني إيّاها صديقي الّذي درس في رومانيا وجاء مرّة واحدة لزيارة المخيّم. وثمّة فناجين عليها نقش عثمانيّ أهداني إيّاها رجل غريب جاء في ساعة ليل إلى الدكّان، وضعهم على الطاولة، وخرج دون أن ينطق بكلمة واحدة. لكنّني لم أعرض تلك الفناجين خوفًا من المحاسبة، إذ تبدو فناجينًا أثريّة". 

أكمل العمّ صالح: "في مراهقتي كنت صائد فناجين محترف، حيث كنت أوقع الفتيات في حبّي فقط ليهدينني فناجينًا، ثمّ أتركهم. هكذا صرت أرتشف شاي الصباح بفنجان خديجة، وشاي الظهر بفنجان رقيّة، وشاي المساء بفنجان جفرا، ثمّ وضعت الفناجين جميعها على الرفّ وصرت أشرب الشاي كلّ يوم بفنجان جدّتك الّذي أهدتني إيّاه في أوّل عيد ميلاد لي بعد زواجنا. لقد رافقتني هذه الفناجين طوال عمري، شَهِدَتْ عليّ حين كنت سعيدًا وحين كنت مكتئبًا، رافقتني في تعبي وكدّي، ربتت على كتفي ولم تتركني أشعر بالوحدة. يكفيني أن أنظر إلى أحدها فأرى أشخاصًا وأحادثهم وأقضي ساعاتي في رشفة شاي في مدينة ما مع شخص ما. كانت الفناجين بمثابة أصدقاء لي، فهل ستحافظ على أصدقائي بعد موتي؟ أنت تعرف أنّني أتوسّم فيك خيرًا، وأمنحك خمسة وستّين عامًا من عمري".

هزّ صالح رأسه وهو يَعِدُ جدّه، فاسترسل الجدّ بعدما ارتشف آخر ما تبقّى من شايه: "ستجد على الرف ستّين فنجانًا، وفي هذا الدرج الّذي خلفك ستجد الأربعة فناجين العثمانيّة، وهذا الّذي في يدي فنجان جدّتك. كُسِرَتْ ثلاثة فناجين خطأً بينما كنت أمسح الغبار عنهم، وأضعت اثنين في لجّة السنين. عليك أن تحافظ عليهم، ولا مانع إن حدّثت الناس عن قصّتي، فلربّما يتوقّفون عن الضحك للمرّة الأولى حين يعرفون أنّ رجلًا في مخيّم الجلزون يحبّ الفناجين مثلما يحبّ أحدهم فتاة أو بيتًا أو حديقة. بعد ساعة من الآن ستكون الفناجين في عهدتك، وهذه وصيّتي الأخيرة".

ثمّ خرج العم صالح تاركًا الطفل ذو العشرة أعوام يتأمّل الفنجان الّذي أعطاه إيّاه جدّه بعدما فرغ منه، وقضى نحو دكّانه غير مكترث بالأمطار الّتي بلّلت ثيابه، ولم تمض ساعة واحدة قبل أن يسمع صالح صوت طرق على الباب، كان فنجانًا يخبره بأنّ جده توفى.

في صبيحة اليوم الثاني، كان «المانشيت» بارزًا في الصفحة الأولى من صحيفة «الحياة الجديدة»: "موت فناجين العمّ صالح!".

 


 

عامر المصري

 

 

 

كاتب وقاصّ وُلِدَ عام 1995 في مدينة خانيونس. صَدَرَت له مجموعتين قصصيّتين عن «مكتبة سمير منصور» بعنوان: «ثلاثة يحاصرونني» (2018) و«حافر القبر القادم» (2019)، وصدرت له رواية بعنوان: «ممحاة سيّدي أزرق» (2019).